العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. فصلي من مدرسة طور الباحة

يمنات

أحمد سيف حاشد

تحدثتُ مسبقا عن طردي من مدرسة الوحدة، و في الإعدادية تم فصلي من مدرسة الشهيد نجيب في مركز طور الباحة مدة اسبوعين، و كان قرار الفصل هذا غير محدد في البداية، و تداخل مع ضغط اداري و نفسي لحملي على الاعتراف بما جنيت، و لكنني لم اعترف، رغم دمغي بالدليل..

في قصة طردي الأولى ربما بديت مستهترا، و أطلقت لعنتي على المدرسة، فاستثرت غضب مديري الذي ترك الطاولة التي أمامه، و حاول اللحاق بي، و لكن كانت سيقاني أخف منه، و عوضا عن ذلك أدركني بقرار الطرد، فيما لعنتي التي أطلقتها على المدرسة في ذروة انفعالي، أصابتني وحدي و لم تُصب أحد سواي .. الفارق أن طردي الأول كان للانفعال اللحظي دورة الأهم، و كانت للمكابرة أيضا دورها في عدم طلب المراجعة، و عدم تحمس والدي للعودة، و قد آثر أن أدرس في شعب بدلا من مراجعة مدير المدرسة التي كانت قريبة من بيتنا، أو تكاد تكون على مرمى حجر منها..

أما فصلي لأسبوعين من مدرسة الشهيد نجيب، في السنة الأولى إعدادي من قبل مدير المدرسة عبده علي الزغير، فقد جاء دعما للضغط النفسي، من أجل دفعي إلى أن أقر وأعترف على نفسي و من معي، و الأهم أن الاتهام و الفصل جاء بعد صبر و تحري و تحقيق لا يخلو من مكر و دهاء..

جميل قائد صالح كان من أعز أصدقائي، و كانت بيننا حميمية كبيرة و انسجام أبراج و طوالع .. اتفقنا على صياغة منشور، و تم شراء أوراق بيضاء، و تم تقسيمها إلى قصاصات متساوية و لافتة، و لأن خطي كان أجمل من صديقي توليت أنا كتابته .. كتبت ما أتفقنا عليه .. دافعنا كان محترما، و ما كتبناه كان غير محترم، و قد تضمن تشهير و إساءة، و تم توزيع تلك القصاصات سرا من كلينا في السوق و أروقة المدرسة.

تم إبلاغ مدير المدرسة ببعض تلك القصاصات التي تم العثور عليها، و ربما أرسل هو من يقوم بجمع ما تبقى مرميا منها .. تم الاستغراق فيما ورد فيها، و تفحص حروفها و كلماتها و خطها و طريقة كتابتها، و بُذل الجهد للوصول إلى معرفة كاتبها .. أستمر الأمر أياما لا أذكر عددها أو ربما مر أسبوعا أو أكثر..

ظل التحري يجري باهتمام و كتمان شديد، فيما كنّا أنا و صديقي جميل نعتقد إن الأمر قد تم تجاوزه، و لم يحدث حتى الضجيج الذي أردناه للوقوف أمام ما أوردناه في المنشور، و لم نعلم بأي إجراءات مما كنّا نتوخاها من توزيعه..

ربما ما فعلناه أنا و زميلي كان عملا طائشا بل و صبيانيا، و أظن إن المدير كان أكثر حكمة، و تعاطى بمسؤولية جمّه حيال ما حدث، و أظهر تحريه و كتمانه عن حس عالي و مسؤولية لدى المدير تستحق التقدير، و إذا كان هناك من مأخذ عليه، فهو أنه لم يجر التحقيق بحقيقة ما ورد في المنشور، حتى و إن كان ما فعلناه لا يخلوا من سخافة، و ربما تم شيئا من ذلك، و لكن لم يتنام إلى علمنا، و كان تصرفه قد جرى على نحو صائب و حكيم، و بكلفة أقل، و من دون ضجيج .. ربما كان الحق كله لدى الأستاذ المدير..

و لكن كيف أكتشف المدير بأنني كاتب هذا المنشور..؟! هذا السؤال الذي كان يجوس داخلي..!! حيرة ظلت تتملكني قبل أن أعرف ما بدد بعضها، و بقي بعضها شاخصا إلى اليوم..

لقد درجت في كتابة الدروس و الإجابة على أسئلة الواجبات بتقليد خط زميلي مصطفى الفاضلي .. كان خطة جميل و ذو رونق جاذب و آخاذ .. كنت أحاول أن أحاكي و أقلد خطه البديع و الساحر .. كان زميلي مصطفى يكتب حرف (هـ) بطريقة مميزة تبدو كحلقتين متداخلتين إحداهما كبيرة و الأخرى صغيرة .. كان يكتبها بتميز مختلف .. صرت أقلده في كتابتها، و كانت هي الثغرة التي كشفت ما اداريه، أو كانت هي الخيط الذي قاد إلى الدليل، إن لم يكن هو الدليل ذاته..

و فيما كنتُ الساعة السابعة مساء منكبا على كتابة الواجبات المدرسية في القسم الداخلي، تخاتل مدير المدرسة بخطوات مهموسة لم أسمع وقعها، و ما أن رفعت رأسي بعد دقائق، و تطلعت إلى أعلى حتى شاهدته و هو واقفا يتفرس ما أكتب .. الحقيقة لم يخطر على بالي إن الأمر يتعلق في البحث عن كاتب المنشور..!! لا أدري لماذا قصدني أنا بالذات دون البقية..؟! لا أظنها صدفة..!! لا أدري كيف قادته قدماه إلى عندي دون غيري..!! تلك كانت حيرتي طيلة محنتي تلك..

و بعد تصفح عجول للدفتر الذي كنت أكتب فيه، أخذه معه؛ و قال لي و هو مقفلا: ألحقني الى الإدارة..؟! الحقيقة لم أكن أعلم إن الأمر يتعلق بالمنشور، و كانت الدهشة تتلبس وجهي، و لم أكن أعلم إن أحد سيهتدي إلى خطي من بين مئات الطلاب..!! لا أدري كيف اختارني من عشرات الطلاب الذين كانوا لحظتها يراجعون دروسهم في القسم الداخلي .. لا أدري كيف اهتدى ليصل لكاتب المنشور خلال أيام أو أسبوع، و دون أن أعلم أو يعلم أحد من اصدقائي إنه يبحث عن شخص ما..!! كان الأمر بالنسبة لي مثار حيرة و سؤال..

وصلت إلى مقر الإدارة، و استقبلني المدير استقبال المحقق الرزين و الحازم .. كان هادئا و واثقا جدا من أنني أنا من كتبت المنشور، لا أحد سواي..! و لكنه يريد فقط أن يعرف من شاركني و دفعني و حرضني على كتابته..؟! كان يحمل يقينية كبيرة أنني كاتب المنشور، فيما كنت أنا أنكر، و أناكر بإمعان و إصرار، رغم إن الأمر قد بديت فيه مكشوفا حد العري..

و بالإصرار على إنكاري وضعته في محل تحدّي، فقد صار هو أيضا يريد أن يسمع الاعتراف مني شخصيا رغم أن كل شيئا بات واضحا في قناعته و حتى في قناعتي المختبئة التي داريتها عنه .. فعندما كان يستعرض أمامي المقارنة بين خطي و خط المنشور، و يدمغني فيه بالقرينة أو الدليل، و يثبت لي إن حرف (هـ) متشابه بين ما هو موجود في المنشور، و ما هو مكتوب بدفتري، بل و في حل الواجب الذي كنت أكتبه و هو واقفا يرصد الكلمات التي أكتبها، ثم انتقل إلى بعض الأحرف و الكلمات من أجل أن استسلم و أعترف له بالتفاصيل .. كان ينتظر انهياري أو استسلامي بالاعتراف، و قد بدأ منطقه قويا و سائغا و لا ينكره إلا مناكر، و كنت بالفعل ذلك المناكر..

أمعنت بإصرار صبياني أنني لست أنا، دون أن أفكر بتقديم أي قرينة أو تسويغ تدعم إنكاري .. فاقد الشيء لا يعطيه و كنت كذلك، و في نفس الوقت كنت أعلم إن الاعتراف سيجرني إلى كثير من التفاصيل، و أن على رأس ما هو مطلوب مني هو معرفة من الذي أشترك معي..

كنت أرى استحالة أن أرمي زميلي جميل في دائرة الاتهام .. كنت أشعر أنني سأغدو نذلا و جبانا إن حاولت أرمي بحملي على زميلي و صديقي الذي كانت تجمعني به حميمية قوية و صحبة مائزة لا يمكنني التضحية بها، بل هي من تستحق التضحية، و بأي كلفة تمليها شهامتي، و يتعين دفعها..

كان و هو يحقق معي يحاول استدراجي للاعتراف بتسهيل نتائجه، بل يغريني أنه سيعفيني من أي عقاب، و سيحمل المسؤولية للشريك كان فردا أو أكثر .. شعرت أنني سأكون دون شهامة أو رجولة إن أخبرته فقط أنني لست وحدي من يكتب “هـ” على ذلك النحو، و شعرت أيضا إنه من الحقارة أن أدافع عن نفسي بذكر اسم صديقي مصطفى الذي كان بريئا، و ليس له صلة فيما اتفقنا عليه و فعلناه أنا و صديقي جميل؛ فآثرت الإنكار، و الإيغال فيه رغم أنه لا يبرئ ساحتي..

كانت العديد من الأسئلة تجوس داخلي: لماذا أنا فقط الذي نالني التحقيق، و لم ينال أحد غيري بما فيهم حتى مصطفى الفاضلي، و هو الأشهر بخطه و بكتابة الـ “هـ” بتلك الطريقة..؟! لماذا أنا بالتحديد، فيما زميلي و صديقي مصطفى هو الأصل و المبدع غير المُقلد، أما أنا فمجرد مقلدا له..؟! كيف يفوت الأصل و يتم الامساك بمن هو دونه..؟! كيف عرف المدير إن هذا خطي أنا بالتحديد بين مئات الطلاب الدارسين في نفس المدرسة..؟! لم أعلم أنه قد أخذ المدير دفتر أي طالب لمقارنة خطه بالمنشور..!! كيف عرف أنني أنا بالذات من كتب المنشور من بين احتمال أكثر من مائة طالب في القسم الداخلي..؟! لقد استخلصت استحالة أن يكون ما حدث محض صدفة..؟!

استبسل إنكاري، و فشلت كل محاولات الترهيب و الترغيب الذي أبداها مديري أثناء التحقيق، بما فيها تهديدي باحالتي للبحث الجنائي في المركز، و اختار عوضا عنه فصلي من المدرسة دون تحديد أي مدة، و في نفس الوقت ألزمني بعدم مغادرة القسم الداخلي، مع ترك الباب مواربا للاعتراف له في أي وقت أجد رغبتي فيه..

أستمر فصلي أسبوعين، و كل يوم أو يومين و أحيانا ثلاث أيام كان يحاول استدعائي، و التأكد عمّا إذا كنت أنوي أو أعزم على الاعتراف و الرجوع عن الانكار، و لكن دون فائدة .. بعد أسبوعين من الفشل في الحصول على اعتراف لا على نفسي و لا على غيري، أكتفى بالأسبوعين كعقوبة فصل إدارية، و أعادني إلى الدراسة، و أنتهى الأمر عند هذا الحد .. و مع ذلك أعترف لهذا المدير إنه كان حكيما، و بملكة محقق ممتاز، و أكثر من ذلك كان تربويا من الطراز الرفيع..   

***

يتبع..

عراك دامي يؤدي بي إلى السجن..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى